{ 51-52 } { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }
يقول تعالى: ما أشهدت الشياطين [وهؤلاء المضلين]، خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم أي: ما أحضرتهم ذلك، ولا شاورتهم عليه، فكيف يكونون خالقين لشيء من ذلك؟! بل المنفرد بالخلق والتدبير، والحكمة والتقدير، هو الله، خالق الأشياء كلها، المتصرف فيها بحكمته، فكيف يجعل له شركاء من الشياطين، يوالون ويطاعون، كما يطاع الله، وهم لم يخلقوا ولم يشهدوا خلقا، ولم يعاونوا الله تعالى؟! ولهذا قال: { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } أي: معاونين، مظاهرين لله على شأن من الشئون، أي: ما ينبغي ولا يليق بالله، أن يجعل لهم قسطا من التدبير، لأنهم ساعون في إضلال الخلق والعداوة لربهم، فاللائق أن يقصيهم ولا يدنيهم.
ولما ذكر حال من أشرك به في الدنيا، وأبطل هذا الشرك غاية الإبطال، وحكم بجهل صاحبه وسفهه، أخبر عن حالهم مع شركائهم يوم القيامة، وأن الله يقول لهم: { نَادُوا شُرَكَائِيَ } بزعمكم أي: على موجب زعمكم الفاسد، وإلا فبالحقيقة ليس لله شريك في الأرض، ولا في السماء، أي: نادوهم، لينفعوكم، ويخلصوكم من الشدائد، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } لأن الحكم والملك يومئذ لله، لا أحد يملك مثقال ذرة من النفع لنفسه ولا لغيره.
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ } أي: بين المشركين وشركائهم { مَوْبِقًا } أي، مهلكا، يفرق بينهم وبينهم، ويبعد بعضهم من بعض، ويتبين حينئذ عداوة الشركاء لشركائهم، وكفرهم بهم، وتبريهم منهم، كما قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
{ 53 } { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا }
أي: لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل، وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم، وحقت كلمة العذاب على المجرمين، فرأوا جهنم قبل دخولها، فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم مواقعوها، وهذا الظن قال المفسرون: إنه بمعنى اليقين، فأيقنوا أنهم داخلوها { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي: معدلا يعدلون إليه، ولا شافع لهم من دون إذنه، وفي هذا من التخويف والترهيب، ما ترعد له الأفئدة والقلوب.
{ 54 } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا }
يخبر الله تعالى عن عظمة القرآن، وجلالته، وعمومه، وأنه صرف فيه من كل مثل، أي: من كل طريق موصل إلى العلوم النافعة، والسعادة الأبدية، وكل طريق يعصم من الشر والهلاك، ففيه أمثال الحلال والحرام، وجزاء الأعمال، والترغيب والترهيب، والأخبار الصادقة النافعة للقلوب، اعتقادا، وطمأنينة، ونورا، وهذا مما يوجب التسليم لهذا القرآن وتلقيه بالانقياد والطاعة، وعدم المنازعة له في أمر من الأمور، ومع ذلك، كان كثير من الناس يجادلون في الحق بعد ما تبين، ويجادلون بالباطل { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } ولهذا قال: { وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا } أي: مجادلة ومنازعة فيه، مع أن ذلك، غير لائق بهم، ولا عدل منهم، والذي أوجب له ذلك وعدم الإيمان بالله، إنما هو الظلم والعناد، لا لقصور في بيانه وحجته، وبرهانه، وإلا فلو جاءهم العذاب، وجاءهم ما جاء قبلهم، لم تكن هذه حالهم، ولهذا قال:
{ 55 } { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا }
أي: ما منع الناس من الإيمان، والحال أن الهدى الذي يحصل به الفرق، بين الهدى والضلال، والحق والباطل، قد وصل إليهم، وقامت عليهم حجة الله، فلم يمنعهم عدم البيان، بل منعهم الظلم والعدوان، عن الإيمان، فلم يبق إلا أن تأتيهم سنة الله، وعادته في الأولين من أنهم إذا لم يؤمنوا، عوجلوا بالعذاب، أو يرون العذاب قد أقبل عليهم، ورأوه مقابلة ومعاينة، أي: فليخافوا من ذلك، وليتوبوا من كفرهم، قبل أن يكون العذاب الذي لا مرد له.
{ 56 } { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا }
أي: لم نرسل الرسل عبثا، ولا ليتخذهم الناس أربابا، ولا ليدعوا إلى أنفسهم، بل أرسلناهم يدعون الناس إلى كل خير، وينهون عن كل شر، ويبشرونهم على امتثال ذلك بالثواب العاجل والأجل، وينذرونهم على معصية ذلك بالعقاب العاجل والآجل، فقامت بذلك حجة الله على العباد، ومع ذلك يأبى الظالمون الكافرون، إلا المجادلة بالباطل، ليدحضوا به الحق، فسعوا في نصر الباطل مهما أمكنهم، وفي دحض الحق وإبطاله، واستهزءوا برسل الله وآياته، وفرحوا بما عندهم من العلم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ويظهر الحق على الباطل { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } ومن حكمة الله ورحمته، أن تقييضه المبطلين المجادلين الحق بالباطل، من أعظم الأسباب إلى وضوح الحق وتبين شواهده وأدلته، وتبين الباطل وفساده، فبضدها تتبين الأشياء.
{ 57-59 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا* وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا }
يخبر تعالى أنه لا أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، من عبد ذكر بآيات الله وبين له الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وخوف ورهب ورغب، فأعرض عنها، فلم يتذكر بما ذكر به، ولم يرجع عما كان عليه، ونسى ما قدمت يداه من الذنوب، ولم يراقب علام الغيوب، فهذا أعظم ظلما من المعرض الذي لم تأته آيات الله ولم يذكر بها، وإن كان ظالما، فإنه أخف ظلما من هذا، لكون العاصي على بصيرة وعلم، أعظم ممن ليس كذلك، ولكن الله تعالى عاقبه بسبب إعراضه عن آياته، ونسيانه لذنوبه، ورضاه لنفسه، حالة الشر مع علمه بها، أن سد عليه أبواب الهداية بأن جعل على قلبه أكنة، أي: أغطية محكمة تمنعه أن يفقه الآيات وإن سمعتها، فليس في إمكانها الفقه الذي يصل إلى القلب، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي: صمما يمنعهم من وصول الآيات، ومن سماعها على وجه الانتفاع وإذا كانوا بهذه الحالة، فليس لهدايتهم سبيل، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } لأن الذي يرجى أن يجيب الداعي للهدى من ليس عالما، وأما هؤلاء، الذين أبصروا ثم عموا، ورأوا طريق الحق فتركوه، وطريق الضلال فسلكوه، وعاقبهم الله بإقفال القلوب والطبع عليها، فليس في هدايتهم حيلة ولا طريق وفي هذه الآية من التخويف لمن ترك الحق بعد علمه، أن يحال بينهم وبينه، ولا يتمكن منه بعد ذلك، ما هو أعظم مرهب وزاجر عن ذلك.
ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته، وأنه يغفر الذنوب، ويتوب الله على من يتوب، فيتغمده برحمته، ويشمله بإحسانه، وأنه لو آخذ العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب، لعجل لهم العذاب، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، بل يمهل ولا يهمل، والذنوب لا بد من وقوع آثارها، وإن تأخرت عنها مدة طويلة، ولهذا قال:
{ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا } أي: لهم موعد، يجازون فيه بأعمالهم، لا بد لهم منه، ولا مندوحة لهم عنه، ولا ملجأ، ولا محيد عنه، وهذه سنته في الأولين والآخرين، أن لا يعاجلهم بالعقاب، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة، فإن تابوا وأنابوا، غفر لهم ورحمهم، وأزال عنهم العقاب، وإلا، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم، أنزل بهم بأسه، ولهذا قال: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } أي: بظلمهم، لا بظلم منا { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } أي: وقتا مقدرا، لا يتقدمون عنه ولا يتأخرون.
تفسير الجزء السادس عشر
{ 60-82 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } إلى قوله : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ}
يخبر تعالى عن نبيه موسى عليه السلام، وشدة رغبته في الخير وطلب العلم، أنه قال لفتاه - أي: خادمه الذي يلازمه في حضره وسفره، وهو " يوشع بن نون " الذي نبأه الله بعد ذلك:- { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ْ} أي: لا أزال مسافرا وإن طالت علي الشقة، ولحقتني المشقة، حتى أصل إلى مجمع البحرين، وهو المكان الذي أوحي إليه أنك ستجد فيه عبدا من عباد الله العالمين، عنده من العلم، ما ليس عندك، { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ} أي: مسافة طويلة، المعنى: أن الشوق والرغبة، حمل موسى أن قال لفتاه هذه المقالة، وهذا عزم منه جازم، فلذلك أمضاه.
{ فَلَمَّا بَلَغَا ْ} أي: هو وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ْ} وكان معهما حوت يتزودان منه ويأكلان، وقد وعد أنه متى فقد الحوت فثم ذلك العبد الذي قصدته، فاتخذ ذلك الحوت سبيله، أي: طريقه في البحر سربا وهذا من الآيات.
قال المفسرون إن ذلك الحوت الذي كانا يتزودان منه، لما وصلا إلى ذلك المكان، أصابه بلل البحر، فانسرب بإذن الله في البحر، وصار مع حيواناته حيا.
فلما جاوز موسى وفتاه مجمع البحرين، قال موسى لفتاه: { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ} أي: لقد تعبنا من هذا السفر المجاوز فقط، وإلا فالسفر الطويل الذي وصلا به إلى مجمع البحرين لم يجدا مس التعب فيه، وهذا من الآيات والعلامات الدالة لموسى، على وجود مطلبه، وأيضا فإن الشوق المتعلق بالوصول إلى ذلك المكان، سهل لهما الطريق، فلما تجاوزا غايتهما وجدا مس التعب، فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة، قال له فتاه: { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ْ}
أي: ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ْ} لأنه السبب في ذلك { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ} أي: لما انسرب في البحر ودخل فيه، كان ذلك من العجائب.
قال المفسرون: كان ذلك المسلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فلما قال له الفتى هذا القول، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت، وجد الخضر، فقال موسى: { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ} أي: نطلب { فَارْتَدَّا ْ} أي: رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ْ} أي رجعا يقصان أثرهما إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت فلما وصلا إليه، وجدا عبدا من عبادنا، وهو الخضر، وكان عبدا صالحا، لا نبيا على الصحيح.
آتيناه [رحمة من عندنا أي: أعطاه الله رحمة خاصة بها زاد علمه وحسن عمله { وَعَلَّمْنَاهُ ْ}] { مِنْ لَدُنَّا ْ} [أي: من عندنا] عِلْمًا، وكان قد أعطي من العلم ما لم يعط موسى، وإن كان موسى عليه السلام أعلم منه بأكثر الأشياء، وخصوصا في العلوم الإيمانية، والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين، الذين فضلهم الله على سائر الخلق، بالعلم، والعمل، وغير ذلك، فلما اجتمع به موسى قال له على وجه الأدب والمشاورة، والإخبار عن مطلبه.
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ} أي: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله، ما به أسترشد وأهتدي، وأعرف به الحق في تلك القضايا؟ وكان الخضر، قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة، ما به يحصل له الاطلاع على بواطن كثير من الأشياء التي خفيت، حتى على موسى عليه السلام، فقال الخضر لموسى: لا أمتنع من ذلك، ولكنك { لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ} أي: لا تقدر على اتباعي وملازمتي، لأنك ترى ما لا تقدر على الصبر عليه من الأمور التي ظاهرها المنكر، وباطنها غير ذلك، ولهذا قال: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} أي: كيف تصبر على أمر،ما أحطت بباطنه وظاهره ولا علمت المقصود منه ومآله؟
فقال موسى: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ْ} وهذا عزم منه، قبل أن يوجد الشيء الممتحن به، والعزم شيء، ووجود الصبر شيء آخر، فلذلك ما صبر موسى عليه السلام حين وقع الأمر.
فحينئذ قال له الخضر: { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ْ} أي: لا تبتدئني بسؤال منك وإنكار، حتى أكون أنا الذي أخبرك بحاله، في الوقت الذي ينبغي إخبارك به، فنهاه عن سؤاله، ووعده أن يوقفه على حقيقة الأمر.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ْ} أي: اقتلع الخضر منها لوحا، وكان له مقصود في ذلك، سيبينه، فلم يصبر موسى عليه السلام، لأن ظاهره أنه منكر، لأنه عيب للسفينة، وسبب لغرق أهلها، ولهذا قال موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ْ} أي: عظيما شنيعا، وهذا من عدم صبره عليه السلام، فقال له الخضر: { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ} أي: فوقع كما أخبرتك، وكان هذا من موسى نسيانا فقال: { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ْ} أي: لا تعسر علي الأمر، واسمح لي، فإن ذلك وقع على وجه النسيان، فلا تؤاخذني في أول مرة. فجمع بين الإقرار به والعذر منه، وأنه ما ينبغي لك أيها الخضر الشدة على صاحبك، فسمح عنه الخضر.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا ْ} أي: صغيرا { فَقَتَلَهُ ْ} الخضر، فاشتد بموسى الغضب، وأخذته الحمية الدينية، حين قتل غلاما صغيرا لم يذنب. { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ} وأي: نكر مثل قتل الصغير، الذي ليس عليه ذنب، ولم يقتل أحد؟! وكانت الأولى من موسى نسيانا، وهذه غير نسيان، ولكن عدم صبر، فقال له الخضر معاتبا ومذكرا: { أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ْ}
فقال [له] موسى: { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ ْ} بعد هذه المرة { فَلَا تُصَاحِبْنِي ْ} أي: فأنت معذور بذلك، وبترك صحبتي { قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ْ} أي: أعذرت مني، ولم تقصر.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ} أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ} أي: قد عاب واستهدم { فَأَقَامَهُ ْ} الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى: { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ} أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟. فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه، فقال له: { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ْ} فإنك شرطت ذلك على نفسك، فلم يبق الآن عذر، ولا موضع للصحبة، { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ} أي: سأخبرك بما أنكرت عليَّ، وأنبئك بما لي في ذلك من المآرب، وما يئول إليه الأمر.
{ أَمَّا السَّفِينَةُ ْ} التي خرقتها { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} يقتضي ذلك الرقة عليهم، والرأفة بهم. { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ْ} أي: كان مرورهم على ذلك الملك الظالم، فكل سفينة صالحة تمر عليه ما فيها عيب غصبها وأخذها ظلما، فأردت أن أخرقها ليكون فيها عيب، فتسلم من ذلك الظالم.
{ وَأَمَّا الْغُلَامُ ْ} الذي قتلته { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ} وكان ذلك الغلام قد قدر عليه أنه لو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا، أي: لحملهما على الطغيان والكفر، إما لأجل محبتهما إياه، أو للحاجة إليه أو يحدهما على ذلك، أي: فقتلته، لاطلاعي على ذلك، سلامة لدين أبويه المؤمنين، وأي فائدة أعظم من هذه الفائدة الجليلة؟" وهو وإن كان فيه إساءة إليهما، وقطع لذريتهما، فإن الله تعالى سيعطيهما من الذرية، ما هو خير منه، ولهذا قال: { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ْ} أي: ولدا صالحا، زكيا، واصلا لرحمه، فإن الغلام الذي قتل لو بلغ لعقهما أشد العقوق بحملهما على الكفر والطغيان.
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ} الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ} أي: حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما، لكونهما صغيرين عدما أباهما، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما.
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ} أي: فلهذا هدمت الجدار، واستخرجت ما تحته من كنزهما، وأعدته مجانا.
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ} أي: هذا الذي فعلته رحمة من الله، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ} أي: أتيت شيئا من قبل نفسي، ومجرد إرادتي، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره.
{ ذَلِكَ ْ} الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ} وفي هذه القصة العجيبة الجليلة، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله. فمنها فضيلة العلم، والرحلة في طلبه، وأنه أهم الأمور، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة، ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل، لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك.
ومنها: البداءة بالأهم فالأهم، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم، والجمع بين الأمرين أكمل.
ومنها: جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن، وطلب الراحة، كما فعل موسى.
ومنها: أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه، وأين يريده، فإنه أكمل من كتمه، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة، كما قال موسى: { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ}
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه، مع أن عادته التورية، وذلك تبع للمصلحة.
ومنها: إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان، على وجه التسويل والتزيين، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره، لقول فتى موسى: { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْ}
ومنها: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس، من نصب أو جوع، أو عطش، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا، لقول موسى: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ}
ومنها: استحباب كون خادم الإنسان، ذكيا فطنا كيسا، ليتم له أمره الذي يريده.
ومنها: استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله، وأكلهما جميعا، لأن ظاهر قوله: { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} إضافة إلى الجميع، أنه أكل هو وهو جميعا.
ومنها: أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به، وأن الموافق لأمر الله، يعان ما لا يعان غيره لقوله: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ} والإشارة إلى السفر المجاوز، لمجمع البحرين، وأما الأول، فلم يشتك منه التعب، مع طوله، لأنه هو السفرعلى الحقيقة. وأما الأخير، فالظاهر أنه بعض يوم، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة، فالظاهر أنهم باتوا عندها، ثم ساروا من الغد، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ} فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده.
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبيا، بل عبدا صالحا، لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبيا، لذكر ذلك كما ذكره غيره.
وأما قوله في آخر القصة: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ} فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث، كما يكون لغير الأنبياء، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ} { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْ}
ومنها: أن العلم الذي يعلمه الله [لعباده] نوعان:
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده. ونوع علم لدني، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْ}
ومنها: التأدب مع المعلم، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب، لقول موسى عليه السلام:
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ} فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا، وإقراره بأنه يتعلم منه، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه، وهو جاهل جدا، فالذل للمعلم، وإظهار الحاجة إلى تعليمه، من أنفع شيء للمتعلم.
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر.
ومنها: تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه، ممن مهر فيه، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة.
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر، ما ليس عنده، فلهذا حرص على التعلم منه.
فعلى هذا، لا ينبغي للفقيه المحدث، إذا كان قاصرا في علم النحو، أو الصرف، أو نحوه من العلوم، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها.
ومنها: إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى، والإقرار بذلك، وشكر الله عليها لقوله: { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ} أي: مما علمك الله تعالى.
ومنها: أن العلم النافع، هو العلم المرشد إلى الخير، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق الخير، وتحذير عن طريق الشر، أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك، فإما أن يكون ضارا، أو ليس فيه فائدة لقوله: { أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ}
ومنها: أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم، وحسن الثبات على ذلك، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم فمن لا صبر له لا يدرك العلم، ومن استعمل الصبر ولازمه، أدرك به كل أمر سعى فيه، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه.
ومنها: أن السبب الكبير لحصول الصبر، إحاطة الإنسان علما وخبرة، بذلك الأمر، الذي أمر بالصبر عليه، وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله: { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ} فجعل الموجب لعدم صبره، وعدم إحاطته خبرا بالأمر.
ومنها: الأمر بالتأني والتثبت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود.
ومنها: تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة، وأن لا يقول الإنسان للشيء: إني فاعل ذلك في المستقبل، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْ}
ومنها: أن العزم على فعل الشيء، ليس بمنزلة فعله، فإن موسى قال: { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ} فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل.
ومنها: أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه قاصرا، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها، أو لا يدركها ذهنه، أو يسأل سؤالا، لا يتعلق في موضع البحث.
ومنها: جواز ركوب البحر، في غير الحالة التي يخاف منها.
ومنها: أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله، ولا في حقوق العباد لقوله: { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْ}
ومنها: أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر.
ومنها: أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها، وتعلق بها الأحكام الدنيوية، في الأموال، والدماء وغيرها، فإن موسى عليه السلام، أنكر على الخضر خرقه السفينة، وقتل الغلام، وأن هذه الأمور ظاهرها، أنها من المنكر، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها، في غير هذه الحال، التي صحب عليها الخضر، فاستعجل عليه السلام، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة، ولم يلتفت إلى هذا العارض، الذي يوجب عليه الصبر، وعدم المبادرة إلى الإنكار.
ومنها: القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين، بتفويت أدناهما، فإن قتل الغلام شر، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما، أعظم شرا منه، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته، وإن كان يظن أنه خير، فالخير ببقاء دين أبويه، وإيمانهما خير من ذلك، فلذلك قتله الخضر، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد، ما لا يدخل تحت الحصر، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها، داخل في هذا.
ومنها: القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة، أنه يجوز، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب، فتسلم من غصب الملك الظالم. فعلى هذا لو وقع حرق، أو غرق، أو نحوهما، في دار إنسان أو ماله، وكان إتلاف بعض المال، أو هدم بعض الدار، فيه سلامة للباقي، جاز للإنسان بل شرع له ذلك، حفظا لمال الغير، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز، ولو من غير إذن.
ومنها: أن العمل يجوز في البحر، كما يجوز في البر لقوله: { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ} ولم ينكر عليهم عملهم.
ومنها: أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين، لهم سفينة.
ومنها: أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ}
ومنها: أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ ْ}
ومنها: أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه، وفي ذريته.
ومنها: أن خدمة الصالحين، أو من يتعلق بهم، أفضل من غيرها، لأنه علل استخراج كنزهما، وإقامة جدارهما، أن أباهما صالح.
ومنها: استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ} وأما الخير، فأضافه إلى الله تعالى لقوله: { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ} كما قال إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ} وقالت الجن: { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ} مع أن الكل بقضاء الله وقدره.
ومنها: أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال، ويترك صحبته، حتى يعتبه، ويعذر منه، كما فعل الخضر مع موسى.
ومنها: أن موافقة الصاحب لصاحبه، في غير الأمور المحذورة، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة.
ومنها: أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة.
الموضوع : تفسير سورة الكهف الجزء الثالث المصدر : اسم منتداك هنا الكاتب: اسماعيل اسامة توقيع العضو/ه :اسماعيل اسامة |
|