تفسير سورة التغابن عدد آياتها 18 ( آية 1-18 )
وهي مكية
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
هذه الآيات [الكريمات]، مشتملات على جملة كثيرة واسعة، من أوصاف الباري العظيمة، فذكر كمال ألوهيته تعالى، وسعة غناه، وافتقار جميع الخلائق إليه، وتسبيح من في السماوات والأرض بحمد ربها، وأن الملك كله لله، فلا يخرج مخلوق عن ملكه، والحمد كله له، حمد على ما له من صفات الكمال، وحمد على ما أوجده من الأشياء، وحمد على ما شرعه من الأحكام، وأسداه من النعم.
وقدرته شاملة، لا يخرج عنها موجود، فلا يعجزه شيء يريده.
وذكر أنه خلق العباد، وجعل منهم المؤمن والكافر، فإيمانهم وكفرهم كله، بقضاء الله وقدره، وهو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة وإرادة، بها يتمكنون من كل ما يريدون من الأمر والنهي، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
فلما ذكر خلق الإنسان المكلف المأمور المنهي، ذكر خلق باقي المخلوقات، فقال: { خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: أجرامهما، [وجميع] ما فيهما، فأحسن خلقهما، { بِالْحَقِّ } أي: بالحكمة، والغاية المقصودة له تعالي، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } فالإنسان أحسن المخلوقات صورة، وأبهاها منظرًا. { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي: المرجع يوم القيامة، فيجازيكم على إيمانكم وكفركم، ويسألكم عن النعم والنعيم، الذي أولاكموه هل قمتم بشكره، أم لم تقوموا بشكره؟ ثم ذكر عموم علمه، فقال: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي: من السرائر والظواهر، والغيب والشهادة. { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما فيها من الأسرار الطيبة، والخبايا الخبيثة، والنيات الصالحة، والمقاصد الفاسدة، فإذا كان عليمًا بذات الصدور، تعين على العاقل البصير، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه، من الأخلاق الرذيلة، واتصافه بالأخلاق الجميلة.
{ 5-6 } { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }
لما ذكر تعالى من أوصافه الكاملة العظيمة، ما به يعرف ويعبد، ويبذل الجهد في مرضاته، وتجتنب مساخطه، أخبر بما فعل بالأمم السابقين، والقرون الماضين، الذين لم تزل أنباؤهم يتحدث بها المتأخرون، ويخبر بها الصادقون، وأنهم حين جاءتهم الرسل بالحق، كذبوهم وعاندوهم، فأذاقهم الله وبال أمرهم في الدنيا، وأخزاهم فيها، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في [الدار] الآخرة، ولهذا ذكر السبب في هذه العقوبة فقال: { ذَلِكَ } النكال والوبال، الذي أحللناه بهم { بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالآيات الواضحات، الدالة على الحق والباطل، فاشمأزوا، واستكبروا على رسلهم، { فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي: فليس لهم فضل علينا، ولأي: شيء خصهم الله دوننا، كما قال في الآية الأخرى: { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فهم حجروا فضل الله ومنته على أنبيائه أن يكونوا رسلاً للخلق، واستكبروا عن الانقياد لهم، فابتلوا بعبادة الأحجار والأشجار ونحوها { فَكَفَرُوا } بالله { وَتَوَلَّوْا } عن طاعه الله، { وَاسْتَغْنَى اللَّهُ } عنهم، فلا يبالي بهم، ولا يضره ضلالهم شيئًا، { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي: هو الغني، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، الحميد في أقواله وأفعاله وأوصافه.
{ 7 } { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
يخبر تعالى عن عناد الكافرين، وزعمهم الباطل، وتكذيبهم بالبعث بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فأمر أشرف خلقه، أن يقسم بربه على بعثهم، وجزائهم بأعمالهم الخبيثة، وتكذيبهم بالحق، { وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فإنه وإن كان عسيرًا بل متعذرًا بالنسبة إلى الخلق، فإن قواهم كلهم، لو اجتمعت على إحياء ميت [واحد]، ما قدروا على ذلك.
وأما الله تعالى، فإنه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، قال تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } .
{ 8 } { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث، وأن ذلك [منهم] موجب كفرهم بالله وآياته، أمر بما يعصم من الهلكة والشقاء، وهو الإيمان بالله ورسوله وكتابه وسماه الله نورًا، فإن النور ضد الظلمة، وما في الكتاب الذي أنزله الله من الأحكام والشرائع والأخبار، أنوار يهتدى بها في ظلمات الجهل المدلهمة، ويمشى بها في حندس الليل البهيم، وما سوى الاهتداء بكتاب الله، فهي علوم ضررها أكثر من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، بل لا خير فيها ولا نفع، إلا ما وافق ما جاءت به الرسل، والإيمان بالله ورسوله وكتابه، يقتضي الجزم التام، واليقين الصادق بها، والعمل بمقتضى ذلك التصديق، من امتثال الأوامر، واجتناب المناهي { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازيكم بأعمالكم الصالحة والسيئة.
{ 9-10 } { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله به الأولين والآخرين، ويقفهم موقفًا هائلاً عظيمًا، وينبئهم بما عملوا، فحينئذ يظهر الفرق والتفاوت بين الخلائق، ويرفع أقوام إلى أعلى عليين، في الغرف العاليات، والمنازل المرتفعات، المشتملة على جميع اللذات والشهوات، ويخفض أقوام إلى أسفل سافلين، محل الهم والغم، والحزن، والعذاب الشديد، وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم، وأسلفوه أيام حياتهم، ولهذا قال: { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } .
أي: يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق، ويغبن المؤمنون الفاسقين، ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون، فكأنه قيل: بأي شيء يحصل الفلاح والشقاء والنعيم والعذاب؟
فذكر تعالى أسباب ذلك بقوله: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ } [أي:] إيمانًا تامًا، شاملاً لجميع ما أمر الله بالإيمان به، { وَيَعْمَلْ صَالِحًا } من الفرائض والنوافل، من أداء حقوق الله وحقوق عباده. { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختاره الأرواح، وتحن إليه القلوب، ويكون نهاية كل مرغوب، { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي: كفروا [بها] من غير مستند شرعي ولا عقلي، بل جاءتهم الأدلة والبينات، فكذبوا بها، وعاندوا ما دلت عليه.
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } لأنها جمعت كل بؤس وشدة، وشقاء وعذاب.
{ 11-13 } { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
يقول تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } هذا عام لجميع المصائب، في النفس، والمال، والولد، والأحباب، ونحوهم، فجميع ما أصاب العباد، فبقضاء الله وقدره، قد سبق بذلك علم الله [تعالى]، وجرى به قلمه، ونفذت به مشيئته، واقتضته حكمته، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام، أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها، فله الثواب الجزيل، والأجر الجميل، في الدنيا والآخرة، فإذا آمن أنها من عند الله، فرضي بذلك، وسلم لأمره، هدى الله قلبه، فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب، كما يجري لمن لم يهد الله قلبه، بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر، فيحصل له بذلك ثواب عاجل، مع ما يدخر الله له يوم الجزاء من الثواب كما قال تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وعلم من هذا أن من لم يؤمن بالله عند ورود المصائب، بأن لم يلحظ قضاء الله وقدره، بل وقف مع مجرد الأسباب، أنه يخذل، ويكله الله إلى نفسه، وإذا وكل العبد إلى نفسه، فالنفس ليس عندها إلا الجزع والهلع الذي هو عقوبة عاجلة على العبد، قبل عقوبة الآخرة، على ما فرط في واجب الصبر. هذا ما يتعلق بقوله: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } في مقام المصائب الخاص، وأما ما يتعلق بها من حيث العموم اللفظي، فإن الله أخبر أن كل من آمن أي: الإيمان المأمور به، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وصدق إيمانه بما يقتضيه الإيمان من القيام بلوازمه وواجباته، أن هذا السبب الذي قام به العبد أكبر سبب لهداية الله له في أحواله وأقواله، وأفعاله وفي علمه وعمله.
وهذا أفضل جزاء يعطيه الله لأهل الإيمان، كما قال تعالى في الأخبار: أن المؤمنين يثبتهم الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة، فقال: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات، وذلك لما معهم من الإيمان.
[وقوله:] { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي: في امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، فإن طاعة الله وطاعة رسوله، مدار السعادة، وعنوان الفلاح، { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } [أي] عن طاعة الله وطاعة رسوله، { فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } أي: يبلغكم ما أرسل به إليكم، بلاغًا يبين لكم ويتضح وتقوم عليكم به الحجة، وليس بيده من هدايتكم، ولا من حسابكم من شيء، وإنما يحاسبكم على القيام بطاعة الله وطاعة رسوله، أو عدم ذلك، عالم الغيب والشهادة.
{ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي: هو المستحق للعبادة والألوهية، فكل معبود سواه فباطل، { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي: فيلعتمدوا عليه في كل أمر نابهم، وفيما يريدون القيام به، فإنه لا يتيسر أمر من الأمور إلا بالله، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاعتماد على الله، ولا يتم الاعتماد على الله، حتى يحسن العبد ظنه بربه، ويثق به في كفايته الأمر الذي اعتمد عليه به، وبحسب إيمان العبد يكون توكله، فكلما قوي الإيمان قوي التوكل
{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإن بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإن في ذلك، من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل.
فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره.
{ 16-18 } { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
يأمر تعالى بتقواه، التي هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويقيد ذلك بالاستطاعة والقدرة.
فهذه الآية، تدل على أن كل واجب عجز عنه العبد، أنه يسقط عنه، وأنه إذا قدر على بعض المأمور، وعجز عن بعضه، فإنه يأتي بما يقدر عليه، ويسقط عنه ما يعجز عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
ويدخل تحت هذه القاعدة الشرعية من الفروع، ما لا يدخل تحت الحصر، وقوله: { وَاسْمَعُوا } أي: اسمعوا ما يعظكم الله به، وما يشرعه لكم من الأحكام، واعلموا ذلك وانقادوا له { وَأَطِيعُوا } الله ورسوله في جميع أموركم، { وَأَنْفِقُوا } من النفقات الشرعية الواجبة والمستحبة، يكن ذلك الفعل منكم خيرًا لكم في الدنيا والآخرة، فإن الخير كله في امتثال أوامر الله تعالى وقبول نصائحه، والانقياد لشرعه، والشر كله، في مخالفة ذلك.
ولكن ثم آفة تمنع كثيرًا من الناس، من النفقة المأمور بها، وهو الشح المجبولة عليه أكثر النفوس، فإنها تشح بالمال، وتحب وجوده، وتكره خروجه من اليد غاية الكراهة.
فمن وقاه الله شر شح نفسه بأن سمحت نفسه بالإنفاق النافع لها { فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأنهم أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب، بل لعل ذلك، شامل لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة. لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما قبلها، لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه نفسًا سمحة، مطمئنة، منشرحة لشرع الله، طالبة لمرضاة، فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مرض لله تعالى، وبذلك تفلح وتنجح وتفوز كل الفوز.
ثم رغب تعالى في النفقة فقال: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وهو كل نفقة كانت من الحلال، إذا قصد بها العبد وجه الله تعالى وطلب مرضاته، ووضعها في موضعها { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } النفقة، بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
{ و } مع المضاعفة أيضًا { يغفر لَكُمُ } بسبب الإنفاق والصدقة ذنوبكم، فإن الذنوب يكفرها الله بالصدقات والحسنات: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } .
{ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجل من عصاه، بل يمهله ولا يهمله، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } والله تعالى شكور يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه الكثير من الأجر، ويشكر تعالى لمن تحمل من أجله المشاق والأثقال، وناء بالتكاليف الثقال، ومن ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه.
{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي: ما غاب عن العباد من الجنود التي لا يعلمها إلا هو، وما يشاهدونه من المخلوقات، { الْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يمانع، الذي قهر كل الأشياء، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره، الذي يضع الأشياء مواضعها.
تم تفسير سورة التغابن [ولله الحمد].
الموضوع : تفسير سورة التغابن المصدر : اسم منتداك هنا الكاتب: اسماعيل اسامة توقيع العضو/ه :اسماعيل اسامة |
|